٢٩٢  

بحث ثالث

تحويل الدين بالجهاد الى دولة و نظام دنيا

بفرض القتال فى الدين ، تحول الدين الى دولة . لذلك يقولون : " الاسلام دولة . فى المدينة أصبح الاسلام دينا و دولة معا . فبدأت قواعد الدولة الاسلامية بالرسوخ . و أخذ الرسول يهتم بالأسس الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية و العلمية التى يجب أن تقوم عليها الدولة . و سيبرز فى الوحى بعد ذلك ناحيتان : ناحية الجهاد لتثبيت الاسلام و انشاء الدولة الجديدة ، و ناحية التشريع ، لإدارة هذه الدولة " 1 .

و هذا هو القرآن المدنى كله : جهاد و تشريع لإقامة دينية . فاين هو الدين الخالص ، كما كان يقول : " ألا لله الدين الخالص " ( الزمر 3 ) . ففى مكة كان محمد " مخلصا له الدين " ( الزمر 11 ) ، " مخلصا له دينى " ( الزمر 14 ) . و كان يدعو جماعته ان يكونوا " مخلصين له الدين " ( 7 : 29 ، 10 : 22 ، 29 : 65 ، 31 : 32 ، 40 : 14 و 65 ، 98 : 5 ) . و فى المدينة تحول الدين الى دولة بجهاده و تشريعه : فالقرآن المدنى هو قرآن الدولة . ففى المدينة صار الدين جزءا من نظام شامل : " الاسلام دين و دولة ... و إنه تعرض لشؤون الحياة الدنيوية العلمية ، بأكثر مما تعرض للاعمال التعبدية ... إن الدين جزء من نظام الاسلام ، و الاسلام ينظمه كما ينظم الدنيا " 2 .

و هكذا فالاسلام نظام دنيا ، و نظام دولة ، و ما الدين فيها سوى " جزء من الاسلام " . فهل هذا هو الأعجاز فى الرسالة الدينية ، عند من كان الكتاب " إمامه " فى الهدى ؟ ( هود 17 ، الاحقاف 12 ) . هل ينزل الله كتابا يهدى الى الدين الحق ، أم الى نظام الدنيا ، و نظام الدولة ؟ و هل تنظيم الدنيا و تنظيم الدولة من الأعجاز فى الرسالة الدينية ؟


1 عمر فروخ : العرب و الاسلام ص 42 .
2 الإمام حسن البنا عند أحمد محمد جمال فى " دين و دولة " – المقدمة الأولى .
  ٢٩٣

بحث رابع

تحويل الدين الى سياسة

إذا كان الجهاد لإنشاء دولة جديدة ، و التشريع القرآنى لإدارة هذه الدولة ، كما نقلنا عن السيد عمر فروخ ، فهذا يعنى تحويل الدعوة الدينية الى دعوة سياسية . فهل هذا ما كان يهدف اليه محمد فى مكة ، فتم له فى المدينة ؟ ألا تصدق فى ذلك فراسة ابن خلدون فى مقدمته الشهيرة 1 : " إن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية ، من نبوة ، أو ولاية ، أو أثر عظيم من الدين على الجملة . و السبب فى ذلك أنهم لخلق التوحش الذى فيهم ، أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض ، للغلظة و الأنفة و بعد الهمة و المنافسة فى الرئاسة ".

هل تكون الدعوة القرآنية فترة فى المنافسة على الرئاسة بمكة بين بنى أمية و بنى هاشم ؟ كانت حامية قبل مبعث محمد . و كانت سبب المقاومة الكبرى فى وجه محمد . و بعده بعثت فى مكامنها و صبغت التاريخ الاسلامى بالدماء . يظهر انها كانت كذلك فى نظر زعماء المشركين ، كما يتضح من قول زعيم مكة أبى سفيان للعباس عم النبى قبل اسلامه : " لقد أصبح ملك ابن اخيك الغداة عظيما " .

فمهما يكن الأمر ، فإن فرض القتال فى النبوة و الدين كان : انقلاب النبوة الى امارة و انقلاب الرسالة الى سياسة و انقلاب الدين الى دولة و انقلاب الدعوة الدينية الى حرب أهلية و انقلاب الاسلام الى نظام دنيا و نظام دولة و انقلاب فكرة الله الرحمان الرحيم الى فكرة الإله الجبار فى القتال ، و بكلمة : انقلاب الدين الى سياسة و دولة . هذا ما فصلناه فى فصل " الأعجاز فى الشخصية النبوية " .

و هكذا ففى تشريع الجهاد ، و فرض القتال فى سبيل الدين ، " من هناك منذ ذلك الوقت خرج ( الاسلام ) الى العالم قوة حربية سياسية " 2 . فتحولت الدعوة الى سياسة .

فهل هذا من الأعجاز فى الرسالة ؟ رسالة دين الله ؟


1 نشر دار الكتاب اللبنانى ص 269 .
2 حتى : تاريخ العرب 1 : 162 .