٣٦ معجزة القرآن

" تناولت الشعبة الأولى ما ظهر على أيدى كافة الرسل من الأمور الكونية و الغيبية : فنبع الماء بين أصابعه ، و سعت الشجرة اليه ، و أنبأته الشاة أنها مسمومة ، و حن الجذع اليه ، و غير ذلك كثير !

" وظهرت الثانية فى شخصية محمد و تكوينه الخلقى المدهش . فقد نشأ فقيرا يتيما محروما من عطف الأم و حبها و حنانها ، أميا ، و فى قوم أمين ، قساة القلوب ، فظاظ الطباع ، حداد الألسنة ، جفاة النفوس ، غلاظ الأكباد . فكان مع ذلك على ما وصفنا من الرقة و الحلم و سعة الصدر و حلاوة اللسان و الشمائل العجيبة ، التى لا تتكون إلا فيمن منحه الله من عنايته ما منح النبى صلعم .

" أما الثالثة ، و هى الأساسية ، فهى القرآن الكريم ، لأنها المعجزة العقلية العلمية الدائمة على الدهر ، لا ينالها تشويه ، و لا يشعر بها تحريف ، تنطق بلسان النبى ، و تثبت بقاء رسالته على وجه الدهر إلى أن يرث الله الأرض و من عليها " .

لقد أحسن صاحب المقال باستدراكه " و هى الأساسية " ، لأن القرآن وحده معجزة محمد باجماع العلماء المسلمين . أما الشعبة الأولى فهى أساطير من الحديث و السيرة لا يأخذ بها عالم ، و موقف القرآن السلبى من كل معجزة ينقضها نقضا مبرما . و أم الشعبة الثانية ، المعجزة الشخصية ، فمع شهادة القرآن بأنك " لعلى خلق عظيم " فلم يعتمدها معجزة لنبيه ، و لا ينطبق عليها تعريف المعجزة للسيوطى . نذكر من ذلك أسطورة " أمية محمد " ، و أسطورة " فقر محمد " الذى أغناه زواجه من السيدة خديجة قبل البعثة بخمس عشرة سنة ، أكثر من سائر تجار قريش مجتمعين . فى هذا الكتاب نوجز المعجزة الشخصية ، فى فصل ، و نفرد لها كتابنا : " المسيح و محمد فى عرف القرآن " . و فى موقف العلماء تقييم حقه لمثل مقال المجلة المذكورة .

فعلماء العصر يشهد فريق المحافظين منهم ، مثل الدكتور حسين هيكل فى ( حياة محمد ) : " لم يرد فى كتاب الله ذكر لمعجزة أراد الله بها أن يؤمن الناس كافة على أختلاف عصورهم برسالة محمد إلا القرآن " . و كان الأستاذ دروزة 1 اصرح فى قوله : " ان حكمة الله اقتضت أن لا تكون الخوارق دعامة لنبوة سيدنا محمد عليه السلام ، و برهانا على صحة رسالته ، و صدق دعوته " .هذا هو الواقع القرآنى . فلم يبقى الا اعجاز القرآن معجزة لمحمد .


1 سيرة الرسول 2 : 226
معجزة القرآن ٣٧

لكن بما أن الاعجاز البيانى للخاصة من العرب الفصحاء لا للعامة ، و لا لجميع الأجانب من الناس كلهم ، فقد أخذ بعض أهل العصر ينكرون ضرورة المعجزة لصحة النبوة ، بخلاف كتب الله كلها ، و بخلاف علماء المسلمين حتى عصرنا .

فالمعجزة هى دليل النبوة الأوحد .
فهل يشهد القرآن لمحمد بمعجزة ؟
و هل يعتبر القرآن اعجازه معجزة له ؟

ثالثا : مابين الاعجاز و المعجزة

فى كتابنا " نظم القرآن و الكتاب – الكتاب الأول : اعجاز القرآن " درسنا واقع القرآن فى اعجازه . و فى هذا " الكتاب الثانى : معجزة القرآن " ندرس هل يصح اعجاز القرآن معجزة له ؟

لقد قسم اهل الاعجاز المعجزة غلى نوعين : حسية و عقلية . المعجزة الحسية هى كل عمل الهى يفعله الله تعالى على يد نبيه يشهد له بالنبوة ، و العقلية هى اعجاز القرآن فى النظم و البيان . و قالوا : إن اعجاز القرآن فى النظم و البيان معجزة عقلية تفوق جميع معجزات الانبياء السابقين الحسية ، لذلك فنبؤة محمد تفوق جميع النبؤات .

1 – لكن الواقع القرآنى يشهد ، كما سنرى ، بوقف القرآن السلبى من كل معجزة ! لذلك كل ما جاء في الحديث و السيرة من معجزة حسية منسوبة إلى محمد ينقضها موقف القرآن السلبى الصريح من كل معجزة له و لنبيه ، و كل ما رأوه من معجزات فى " آياته المتشابهات " ينقضها صريح " آياته المحكمات " .

2 – فليس من القرآن من معجزة حسية . و الواقع القرآنى يشهد بإن محمدا لم يأتى بمعجزة : " لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله " ( الانعام 124 ) ، " فلياتنا بآية كما أرسل الأولون " ( الأنبياء 5 ) ، " و أقسموا بالله جهد إيمانهم : لئن جائتهم آية ليؤمنن بها " ( الأنعام 109 ) ، " و ما منع الناس أن يؤمنوا ... الا أن تأتيهم سنة الأوليين " ( الكهف 55 ) . فالمعجزة هى سنة النبوة ، و القرآت يشهد صراحة نحو خمس و عشرين مرة ، غير الشهادات