١١٢ معجزة القرآن

إن القرآن ، بعد عجز النبى عن معجزة حسية طول العهد بمكة ، و بعد أن نسخ التحدى باعجاز القرآن فى المدينة ( آل عمران 7 ) ، و جاء نصر الله فى معركة بدر ، أخذ يرى فى الفتوحات النبوية آية له على صحة رسالته و صدق دعوته . لكن القرآن لا يعتبرها معجزات من دلائل النبوة ، كما سنرى .

أولا : نصر الله فى مواطن كثيرة

" لقد نصركم الله فى مواطن كثيرة " . منها هذه المواطن الأربعة الكبرى .

1 – " يوم الفرقان " فى معركة بدر ( الانفال 41 ) .

يعتبر القرآن معركة بدر " فرقانا " بين الايمان و الكفر . ففيه ظهر الاسلام الجديد على خصومه مشركى مكة . فهل يعتبر ذلك النصر معجزة إلهية ؟ و هل فيه شروط المعجزة ؟

نقلنا قوله فيها فى ( سورة الانفال ) . و رأينا أنه يعتبر مساعدة الملائكة ، و مساعدة الطبيعة من نعاس و مطر قبل المعركة ، و حنكة القائد يرمى الحباء لبدء القتال ، من آيات التأييد الربانى . لكن هذا التأييد لا يتخذ صفة المعجزة : فليس العمل بخارق للعادة ، قبل المعركة : " و ان فريقا من المؤمنين لكارهون " ( 5 ) ، " يجادلونك فى الحق ، بعدما تبين ، كأنما يساقون الى الموت و هم ينظرون " ( 6 ) ، و يستغيثون ربهم من رعبهم ( 9 ) – ليست هذه حال من يقبل على مشاهدة معجزة . و ليس من تحد بالمعركة لإثبات صحة الرسالة . و بعد المعركة نشبت بينهم الفتنة ( 25 ) حتى حذرهم من الخيانة ( 27 ) و اختلفوا فى مصير الأسرى ( 67 ) . و اختلفوا فى قسمة الغنائم ( 1 و 41 ) و تنازعوا ( 46 ) . و لو كان فى المعركة شىء خارق للعادة لما قال بعضهم : " اذ يقول المنافوق و الذين فى قلوبهم مرض : غر هؤلاء دينهم " ! ( 49 ) .

و اختلاف التفسير الصوفى لأحداث الغيب يمنع من رؤية معجزة فيها . ففى ( الأنفال ) يقول : " إذ تستغيثون ربكم ، فاستجاب لكم : انى ممدكم بألف من الملائكة مردفين " ( 9 ) . لكن فى ( آل عمران ) يقول ، تعزية لهم عن خذلانهم فى معركة أحد : " و لقد نصركم الله ببدر ، و أنتم أذلة ! فأتقوا الله لعلكم تشكرون . إذ تقول للمؤمنين : ألن يكفيكم أن

معجزة القرآن ١١٣

يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ؟ بلى ، إن تصبروا و تتقوا – و يأتوكم من فورهم هذا – يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين " ! ( 123 – 125 ) . و فى الحالين يعتبر الإخبار بذلك " بشرى " للاطمئنان ، لا معجزة للتحدى ( الانفال 10 = آل عمران 126 ) . اختلاف فى رؤيا الغيب ، و اختلاف فى رؤية المشهود : " و اذ يريكموهم إذ التقيتم فى أعينكم قليلا ، و يقللكم فى أعينهم ، ليقضى الله أمرا كان مفعولا " ( الانفال 44 ) . لكنه فى ( آل عمران ) يقول : " قد كان لكم آية فى فئتين التقتا : فئة تثاتل فى سبيل الله ، و أخرى كافرة : يرونهم مثليهم 1 رأى العين . و الله يؤيد بنصره من يشاء ، إن فى ذلك لعبرة لأولى الأبصار " ( 13 ) – فهل كانت الآية فى رؤية العدو " قليلا " ، أم فى رؤيته " مثليهم لعبرة العين " ؟ يتطور التفسير الصوفى مع تطور الأحوال ، و ليس فى ذلك شىء من المعجزة .

و لو رأى القرآن نفسه فى نصر بدر معجزة لتحدى بها المشركين كلما أحرجوه بمعجزة . و لو رأى العرب فيها معجزة لما ظلوا يحرجون النبى بمعجزة ، بمثل هذا التحدى الصارخ : " و اذ قالوا : اللهم ، إن كان هذا هو الحق من عندك ، فأمطر علينا حجارة من السماء ، أو ائتنا بعذاب أليم " ( الانفال 32 ) . و لو كان نصر بدر معجزة ، لما تواعدوا على اللقاء فى بدر الأخرى و فى أحد .

أجل لقد كان نصر بدر " فرقانا " بين الحق و الباطل ، لكن هذا " الفرقان " لا يحمل شيئا من معانى الحادث المعجز ، و لا من أشراط المعجزة . نصر بدر بطولة ، لا معجزة .

2 – يوم " الزلزال الشديد " فى غزوة الخندق

كانت غزوة المشركين للمدينة و الرسول ، فى يوم الخندق ، ذروة هجوم أهل الشرك ، انتقل بعدها المسلمون الى الهجوم حتى فتح مكة . لذلك رأى بعضهم أيضا فى معركة الخندق معجزة إلهية تؤيد الرسالة و الدعوة . لكن ليس فى الحادث شىء من أركان المعجزة ،


1 فسره البيضاوى : " يرونهم مثليهم : يرى المشركون المؤمنين مثلى عدد المشركين و كان قريب ألف ، أو مثلى عدد المسلمين و كانوا ثلاثماية و بضعة عشر . و ذلك كان بعد ما " قللهم " فى أعينهم حتى اجترأوا عليهم و توجهوا اليهم . فلما لاقوهم كثروا فى أعينهم حتى غلبوا مددا من الله تعالى للمؤمنين . أو يرى المؤمنون المشركين مثلى المؤمنين و كانوا ثلاثة أمثالهم " . فالتفسير الثانى " ثلاثة أمثالهم " ينقض حرف القرآن " مثليهم " و التفسير الأول هو الصحيح ، و تخريج البيضاوى للتعارض بين " يقللكم " و بين " يرونهم مثليهم " متهافت لا يستقيم .