٢٠٤ معجزة القرآن

على الهجرة ، كل هذا لا يدل على اعجاز فى الشخصية . فغلإعجاز فى الشخصية يقتضى السكينة النفسية فى المحنة ، و الصمود حتى الاستشهاد .

ثالثا : الذنب و الاستغفار

إن الرسول مثال لأمته و للبشرية جمعاء بقداسة السيرة . و قداسة السيرة قد تأتلف مع الهفوات البشرية العابرة . لكنها لا تنسجم مع الاقرار المتواتر بالذنب ، ومع الأمر المتواتر بالاستغفار .

ظاهرة كبرى فى القرآن هى شعور محمد بالذنب . كان يشعر بالذنب فى أول أمره : " ألم نشرح لك صدرك ، ووضعنا عنك وزرك ، الذى أنقض ظهرك " ( الشرح 1 ) . ووزر ينقض الظهر ليس بالصغير و لا بالحقير ! فسره الزمخشرى : " و الوزر الذى أنقض ظهره مثل لما كان يثقل على رسول الله و يغمه من فرطاته قبل النبوة " . و قال البيضاوى : " ووضعنا عنك وزرك ، أى عبأك الثقيل الذى انقض ظهرك : و هو ما ثقل عليه من فرطاته قبل البعثة " .

و فى أوج النبوة و الرسالة يزداد الشعور بالذنب ، يقال له : " إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنوبك و ما تأخر " ( الفتح 1 ) . فإن الذنوب لا تنتهى . جاء فى تفسير ابن عباس : " لكى يغفر لك الله ما سلف من ذنوبك قبل الوحى ، ( و ما تأخر ) ما يكون بعد الوحى الى الموت " . قال الزمخشرى : " يريد جميع ما فرط منك ، و عن مقاتل : ما تقدم فى الجاهلية و ما بعدها . و قيل : ما تقدم من حديث مارية و ما تأخر من امرأة زيد " . و يجمع الجلالان الآيتين فى صورة واحدة تكشف عن نفسية النبى العربى : " ووضعنا عنك وزرك الذى أثقل بالاثم يدل على ضمير حى ، لكنه ، لا يدل على إعجاز فى الشخصية القدسية .

و هناك صورة قاتمة ، حضور الشياطين و همزاتهم للنبى ، " قل : رب اعوذ بك من همزات الشياطين ، و أعوذ بك ، رب ، أن يحضرون " ! ( المؤمنون 97 – 98 ) . إن الأمر بالاستعاذة هو للنبى نفسه : " قل " . و الاستعاذة دليل الأمر الواقع . و هو يفرض هذه الاستعاذة خصوصا فى قراءة القرآن ، خوفا من التبديل فيه : " فإذا قرأت القرآن ، فاستعذ

معجزة القرآن ٢٠٥

بالله من الشيطان الرجيم ... و إذا بدلنا آية مكان آية ، و الله أعلم بما ينزل ، قالوا : إنما أنت مفتر ! " ( النحل 98 و 101 ) . و يظهر ان الشيطان يحضر التنزيل و يدس فيه : " و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبى ، إلا اذا تمنى ( قرأ ) ألقى الشيطان فى أمنيته ! فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته ، و الله عليم حكيم " ( الحج 52 ) . و حضور الشيطان قد يكون فى أحداث السيرة : " خذ العفو ، و أمر بالعرف و أعرض عن الجاهلين : و إما ينزغنك من الشيطان نزغ ، فاستعذ بالله إنه سميع عليم " ( الاعراف 199 – 200 ) أى " يصرفك عما أمرت به صارف " من الشيطان ( الجلالان ) . و قد تكون ملاحقة الشياطين فى كل أمر : " و لا تستوى الحسنة و لا السيئة : ادفع بالتى هى أحسن ، فإذا الذى بينك و بينه عداوة كأنه ولى حميم . و ما يلقاها ، إلا الذين صبروا ، و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم . و إما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ، انه هو السميع العليم " ( فصلت 34 – 36 ) . أى " يصرفك عن الخصلة و غيرها من الخير صارف " ( الجلالان ) . قيل : و كان محمد يصلى كل يوم قبل النوم المعوذتين ليبعد نزغ الشيطان و همزاته . فهذا الهلع الدائم من حضور الشياطين و همزاتهم فى السيرة و الدعوة ، صورة لا توحى بالسلطان عليهم و لا هى دليل على إعجاز الشخصية القدسية .

و يأتى الأمر المتواتر للنبى بالاستغفار ، فيدل دلالة قاطعة على وقوع الذنوب فى سيرة الرسول ، و أن العصمة من الخطيئة أسطورة . فالله يأمر محمدا بالاستغفار من ذنبه مرارا : " فاصبر إن وعد الله حق ، و استغفر لذنبك و سبح بحمد ربك بالعشى و الابكار " ( غافر 55 ) . و بما أن الاستغفار و التسبيح مطلوبان كل يوم صباح مساء ، فهذا يدل على الذنب الممكن كل يوم ! و الرسول و المؤمنون سواء فى الذنب و الاستغفار : " و استغفر لذنبك ، و للمؤمنين و المؤمنات " ( محمد 19 ) . علق الاستاذ صبحى الصالح 1 : " من المعلوم أن العفو لا يكون إلا عن ذنب ، كما أن المغفرة ، إلا بعد ذنب . و قد صرحت الآية بهذا فى سورة الفتح : إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر " .

و يختم القرآن الدعوة و السيرة ، فى ذروزة النصر و الفتح بالأمر الدائم بالاستغفار : " إذا جاء نصر الله و الفتح ، و رأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا : فسبح بحمد ربك


1 مباحث فى علوم القرآن ، ص 74 ، مستندا إلى تفسير المنار 10 : 465