٢٠٦ معجزة القرآن

و استغفره ، إنه كان توابا " ( سورة النصر ) . ان محمدا يؤمر بالاستغفار حتى فى نصر الله و الفتح ، لأن فيهما ما يستوجب الاستغفار من الذنوب .

فلم يكن محمد معصوما من الذنوب فى سيرته و تأدية رسالته . و عصمة الرسل إنما هى فى الوحى و التنزيل ، لا فى السيرة و لا فى السريرة ، لا فى القيام بالدعوة ولا فى تأدية الرسالة . و من عصمة الله فى هذا فقد عصمه فوق عصمة الرسل . و هذه العصمة فى السيرة لم ينلها محمد بنص القرآن القاطع ، كما مر بنا .

يقول عبد السمان 1 : " و الفترة التى قضاها محمد صلعم نبيا رسولا ، كان فيها بجانب النبوة و الرسالة بشرا ، لم يتخلى عنه جانب واحد من جوانب البشرية كلها . كان مرتبطا بالوحى حين يتكلم – فحسب – أما حين لا يتكلم الوحى ، فله تفكيره و له رأيه ، و بجانب ذلك آراء و تفكيرات أتباعه ، يستشيرهم و يعتد بآرائهم فيما لا رأى للوحى فيه .

" و من البلاهة المركزة أن يصر بعض البسطاء من المسلمين ، و من كتاب السيرة ، على أن محمدا كان معصوما خلال فترة نبوته و رسالته من كل كبيرة و صغيرة ، لأن كل حركة و سكنة ، و قول و فعل منه ، انما كان بوحى . و ليس لهؤلاء البلهاء من حجة سوى قوله تعالى : " و ما ينطق عن الهدى ، إن هو إلا وحى يوحى " ... و يجهل هؤلاء أو يتجاهلون ان المقصود من هاتين الآيتين ان الرسول منزه عن الهوى ، و أن ما يتلوه على الناس من قرآن ، ليس من تأليفه ، و انما جاء به الوحى من عند الله ...

" إن محمدا طولب بالاستغفار من ذنبه ، كما طولبت أمته أيضا بالاستغفار من ذنوبها . و فى ذلك أكثر من آية . و ليس هناك ما يدعو الى الخلط و التأويل الفاسد ( كما يقول بعضهم : ان المقصود بامر الاستغفار أمة محمد ، و ليس محمدا نفسه ) ...

" فى القرآن صور من عتاب الله لمحمد ، و ليس العتاب إلا نتيجة لمجانية الصواب و ارتكاب الخطإ . و ليس من المعقول مجاراة أولئك المغالين الذين يحرصون – بل يصرون – على أن يضفوا على شخصية محمد هالة من التقديس الذى يأباه محمد نفسه ، لأنه فى غنى عنه . و ليست عظمة الشخصية فى أن تكون معصومة من الخطإ ... ( ثم ينقل بعض نماذج من صور العتاب لمحمد ) .


1 محمد الرسول البشر ، ص 56 – 70
معجزة القرآن ٢٠٧

" هذه بعض نماذج من صور العتاب لمحمد ، فى كتاب الله عز و جل ، حتى يتبين لنا أن العصمة من الزلل و الخطإ إنما هى لله وحده ...

" و محمد كان بشرا قبل ان يكون رسولا . ثم صار بشرا رسولا . و لم تكن صفة النبوة و الرسالة لتحول دون طبيعته البشرية ، أو تحول بينه و بين الأنحراف فى السلوك الشخصى ، فى ما هو بعيد عن نطاق الوحى . فهو معصوم حين يتدخل الوحى – لأن الله هو الموجه ، و العصمة له وحده – و هو غير معصوم حين لا يتدخل الوحى ، لأنه بشر ، و البشر ليست العصمة واجبة إليهم ...

" و لذلك كان – كما جاء فى صحيح مسلم و غيره – يستغفر الله فى اليوم و الليلة مائة مرة . و كان من دعائه ، كما ورد فى الصحيح : " اللهم اغفر لى خطإى و جهلى ، و ما أنت أعلم به منى . اللهم اغفر لى هزلى و جدى ، و خطإى و عمدى ، و كل ذلك عندى " .

و هكذا فإن محمدا ، خارج نطاق الوحى ، ليس معصوما من الخطإ ، و ليس معصوما من الخطيئة . و برهان ذلك عتاب الله مرارا له ، و الأمر المتواتر بالاستغفار من الذنوب .

و كم تكون عظمة الشخصية كبيرة ، إذا كانت معصومة من الذنب ، الذى لم يسلم منه بشر ، و لا نبى و لا رسول . و هذه العصمة المعجزة فى السيرة لم ينلها سوى السيد المسيح : " و جعلنى مباركا أينما كنت ... و السلام على يوم ولدت و يوم أموت و يوم أبعث حيا " ( مريم 31 – 33 ) . انها سيرة مباركة فى كل زمان و مكان ، و تستحق سلام الله عليها فى كل الأحوال من المهد الى اللحد ، و من الأرض الى السماء . ان روح القدس كان يؤيد السيد المسيح فى الوحى ، و فى السيرة ، و فى الدعوة ، " يسير معه دائما " ، " لا يفارقه ساعة " . فهذا التأييد هو مصدر العصمة من الخطيئة و الخطإ عند السيد المسيح .

عصمة فى الوحى ، و عصمة من الخطإ فى السلوك ، و عصمة من الاثم ، هذا هو الإعجاز المطلق فى الشخصية النبوية عند المسيح . أما محمد فليس من إعجاز فى سيرته الشخصية يجعلها معجزة رسالته و دعوته . إننا لا ننكر إعجازا فى سيرة النبى الشخصية ، لكننا نستنكر أن يكون هذا الإعجاز معجزة إلهية .